اخر الأخبار

25‏/3‏/2014

دور الحركة الصهيونية في عهد السلطان عبد الحميد الثانى 1876 - 1919م

بسم الله الرحمن الرحيم
سأقدم بحث عن دور الحركة الصهيونية في عهد السلطان عبد الحميد الثانى
من 1876 - 1919م

 تولى اللورد بالمرستون وزارة الخارجية البريطانية عام 1830 م أول مرة. وكان ضعف الإمبراطورية العثمانية 
واضحاً، خاصة عندما احتل محمد علي باشا منطقة بلاد الشام عام 1830 م. لذا حاول بالمرستون أن تبقى الدولة العثمانية سليمة وحية، في حين كانت روسيا وفرنسا تتلهفان على موت الدولة العثمانية أملاً في الحصول على نصيبهما من تركة الإمبراطورية. لذا كان بالمرستون يبحث عمّن يحمي مصالح بريطانيا في الشرق العربي، فوجد ضالته في اليهود، وذلك بتأسيس كيان لهم في المستقبل.

          وقد بحث بالمرستون الموضوع مع اللورد شافتسبري؛ لكن شافتسبري أفصح عن مشروع أعده منذ زمن وأطلع بالمرستون عليه، وهو الاستيطان اليهودي في فلسطين وتكثيفه. ولم ينجح مشروع شافتسبري، لكن صاحبه لم يعرف اليأس، وهو صاحب الجملة المأثورة: ”فلسطين أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض، أي اليهود“. وقد تبنى الصهاينة فيما بعد هذه الجملة وأصبحت من أوّل الشعارات الصهيونية: ”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض“.


          كان بالمرستون في مقدمة الساسة الإنجليز الذين نفخوا في الصهيونية قبل أن تولد عام 1897 م والتي تتبع الروح العنصرية الاستعلائية، وشدد على ربط تركيا بالغرب، وذلك عن طريق مشروع الاستيطان الصهيوني، وكان يقول إن تركيا بلد متأخر وبحاجة إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية.

          وتم افتتاح أول قنصلية بريطانية في القدس عام 1834 م، وذلك لحماية المصالح البريطانية في الشرق أولاً، والاهتمام بتشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين ثانياً. وكانت التعليمات البريطانية للقنصلية في القدس الاهتمام بشؤون اليهود وتسجيلهم في القنصلية بقصد حمايتهم. وقد كتب القنصل الإنجليزي في القدس المستر ديكسون بتاريخ 11/7/1893 م إلى المستر آرثر نيكلسون مسؤول وزارة الخارجية البريطانية ما يلي: ”يحصل لي الشرف أن أكتب لك قائمة بأسماء اليهود الروس الذين سجلوا أسماءهم في القنصلية البريطانية لحمايتهم إلى الأبد، وأذكر لك أنني بعثت بقائمة مماثلة إلى السلطات العثمانية في القدس“ (1) وكان القنصل الإنجليزي يقدم هذه الكشوفات إلى بلاده أيضاً. وقد ساعد الإنجليز عدداً من اليهود على شراء الأراضي في فلسطين وبناء مستعمرات يهودية عليها، ولا سيما في مناطق زمارين وملبس وعيون قارة والخضيرة وتل أبيب (تل الربيع)  (2) وغيرها.

          وكانت تعليمات بالمرستون إلى القنصل البريطاني في القدس تقديم تقارير عن وضع اليهود في فلسطين وضرورة حمايتهم، وكانت رسائله تنص على اعترافه باليهود أُمَّةً وارتباطهم بفلسطين. وفي أيار عام 1839 م وتنفيذاً لتعليمات بالمرستون أرسل ينغ ـ نائب القنصل في القدس ـ إلى وزارة الخارجية تقريراً يقول فيه: ”إن عدد اليهود المقيمين في فلسطين 9690 شخصاً، وإن وضعهم بائس، وإنهم يعتمدون اعتماداً كاملاً على المساعدة الخارجية“ (3). ومن المعروف أن الحماية البريطانية كانت لليهود الذين يحملون جنسيات أجنبية. أما يهود الإمبراطورية العثمانية (يهود الراية)، فكانوا يعتبرون رعايا للإمبراطورية خاضعين لتشريعات السلطان.



          وكان دعم بالمرستون للاستيطان اليهودي في فلسطين جزءاً متمماً لنزعاته الصهيونية. وهذا دعم لخطة سافتسبري الداعية لإعادة اليهود بشكل جماعي إلى فلسطين.

          وهكذا نلاحظ أن بريطانيا قد خططت لضرورة التكلم مع السلطان العثماني لتجميع اليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية وبموافقة السلطان، ولكن هذا التخطيط كان الهدف الأول منه المصلحة البريطانية تجارياً، وذلك بسبب موقع فلسطين على الطريق بين بريطانيا والهند. وقد صرح بذلك توماس كلارك في كتابه "الهند وفلسطين" عام 1861 م فقال:



              إن بعث الأمة اليهودية سوف ينعش بني إسرائيل ويعود علينا بأفضل المنافع قاطبة. ومن المؤكد أن احتلال اليهود لفلسطين تحت حماية بريطانيا يجب أن يكون بمثابة الضرورة القصوى على الإطلاق. وإذا كانت بريطانيا تعتمد من جديد على تجارتها كحجر الزاوية في عظمتها، وإذا كان أقرب مجرى للتجارة وأفضله يمر عبر القارات الثلاث الكبرى، وبما أن اليهود يؤلفون شعباً تجارياً في الجوهر، فهل توجد بادرة أكثر طبيعية ومنطقية من زرعهم على طول ذلك الطريق القديم العظيم للتجارة القديمة؟ (4) .

وتركزت مصلحة بريطانيا في الشرق في تأمين المواصلات إلى الهند عبر سوريا وفي المحافظة على أمن الهند الذي كان مهدداً من قبل روسيا وفرنسا. لذا وجدت بريطانيا أنه لابد من التحالف بين بريطانيا الاستعمارية والصهيونية الدينية.

          وهكذا كانت بريطانيا تخطط للمحافظة على إمبراطوريتها الممتدة من كندا في الغرب إلى الهند في الشرق وأستراليا في الجنوب الشرقي، هذه الإمبراطورية التي لا تغرب عن مستعمراتها الشمس.

الحركة الصهيونية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني

          سميت الحركة الصهيونية بهذا الاسم نسبة إلى جبل صهيون في القدس، وقامت بين يهود روسيا في أواسط القرن 19 ”حركة أحباء صهيون“ أو الصهيونية. إن كلمة ”صهيون“ في أصلها كلمة كنعانية أطلقت على الجبل الشرقي في مدينة القدس. وقد وردت كلمة ”صهيون“ في التوراة خمسين ومائة واثنتين مرة على أنها المدينة المقدسة كما وردت سبع مرات بالمعنى نفسه في العهد الجديد (5).

          إن الحركة الصهيونية الحديثة ما كان ممكناً أن يكون لها دور، أو أن تقوم لها قائمة، لولا الجذر الديني الذي اعتمدت عليه جسراً أو إلى حد لا بديل عنه بين الشتات والدولة. فهذا الجسر هو صلة الوصل بين اليهود أينما كانوا وبين الهدف الرئيس للحركة الصهيونية وهو تجميع اليهود وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين، علماً بأن عدداً منهم أراد دولة لليهود في أي مكان في العالم، وتطورت حركة أحباء صهيون على يد ليوبنسكر في كتابه "التحرير الذاتي" ـ نشر بالألمانية عام 1882 م ـ ليؤكد أن اليهود ليسوا جماعة دينية فقط، بل هم أمة مستقلة بذاتها وخلاصهم من حياة الاضطهاد لا يكون إلا بتحرير أنفسهم باستقلالهم في أرض يعيشون فيها عيشة قومية حرة، ولم تكن هذه الأرض بالضرورة فلسطين (6) .

          وهناك نوعان من الصهيونية السياسية هما: الصهيونية غير اليهودية، وهي الصهيونية التي خطط لها زعماء الاستعمار، والصهيونية اليهودية وهي التي خطط لها زعماء اليهود. لذا فالصهيونية غير اليهودية هي تلك التي نادى بها الغرب لدوافع استعمارية، وذلك بقصد احتلال بلاد المشرق العربي عن طريق المناداة بضرورة تجميع اليهود في فلسطين. وأصبح للحركة الصهيونية أنصار من اليهود يدافعون عنها ويؤيدونها، وهدفها تجميع اليهود في فلسطين وإقامة دولة لهم فيها، وهناك جمعيات وحركات أخرى يهودية في أوروبا كان الهدف من تشكيلها تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي وتوزيعها على اليهود (7) .

          كان لورنس أوليفانت عضو البرلمان البريطاني من الشخصيات القوية الداعمة للصهيونية، وهو صاحب نظرية إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية لمواجهة الإمبراطورية الروسية، وقام لورنس بزيارة فلسطين حيث درس ظروف الاستيطان والاستعمار الزراعي فيها ونشر كتابه "أرض جلعاد" الذي اقترح فيه إقامة مستوطنة يهودية شرقي نهر الأردن تكون تحت السيادة العثمانية والحماية البريطانية، وقدم توصيات بشأن السكان العرب في فلسطين. فمثلاً، قال: يجب طرد البدو لأنهم مولعون بالحرب. أما الفلاحون، فيجب وضعهم في أراضٍ خاصة بهم كالهنود الحمر في أمريكا الشمالية (8) . وأقام لورنس اتصالات بين الصهيونيين اليهود وغير اليهود. وكان أوَّل اتصال له مع ”حركة أحباء صهيون“ التي تشكلت من الأوربيين الشرقيين، والذين كان همهم الأكبر هو الفرار من موجة المذابح التي أعقبت اغتيال القيصر الإسكندر الثاني عام 1881 م. وفي خلال سنتي 1881 ـ 1882 م بدأت تتشكل جمعيات في روسيا هدفها تحقيق هجرة اليهود إلى فلسطين. وقد عرفت هذه الجمعيات باسم ”حب صهيون“، ثم اشتهرت باسم ”أحباء صهيون“. وقد عقد ”أحباء صهيون“، أول مؤتمر لهم عام 1884 م، ويعتبر هذا المؤتمر أول محطة بارزة في تاريخ هذه الحركة. وقد انتشرت فروع لأحباء صهيون في أوروبا الشرقية. وحصلت ”جمعية أحباء صهيون“، عام 1890 م على ترخيص رسمي من السلطات الروسية معرفة عن نسها بأنها ”جمعية لمساعدة اليهود الزراعيين والحرفيين في فلسطين وسوريا“. وبسبب النزاعات الداخلية في الحركة، فشلت وأخذ أفرادها يعمل كل واحد بمفرده.

          إن الانتقال بالمشروع الصهيوني من الساحة الأوروبية المسيحية إلى الساحة الأوروبية اليهودية كان واضحاً. وقد أفصح هيرتسل في مؤتمر بال عام 1897 م عندما قال إن النداءات والدعوات الفكرية لتجميع اليهود لم تجد أذناً صاغية حتى بين اليهود أنفسهم في الثلاثينيّات من القرن التاسع عشر، ولكن في الستينيّات من القرن نفسه بدأت هذه الدعوة تلقى نجاحاً. ومن أبرز الرواد لهذه الحركة في هذه المرحلة ثلاثة يهود هم يهودا الكلعي وكاليشر وهس، ثم جاء بنسكر متأخراً عن هذه المرحلة. ولد يهود الكلعي في يوغوسلافيا، وكان حاخام الطائفة اليهودية في سراجيفو ـ في البوسنة. نشر كتاباً في تعليم اللغة العبرية، وكتاباً آخر عام 1840 م عنوانه "شلوم يروشالايم" حث فيه اليهود على دفع 1/10 من مدخولهم لمساعدة يهود القدس، وسكن فيها في أواخر عمره ومات فيها عام 1878 م. وكان الكلعي أول الداعين إلى تحديث اللغة العبرية وأول من نشر فكرة إنشاء جمعية ليهود العالم لتوحيدهم (9) .

          وأما تسفي هيرش كاليشر، فهو من روسيا. كان حاخاماً للطائفة اليهودية في مدينة ثورن، وتقع هذه المدينة حالياً في بولونيا. نشر كتاباً عام 1862م بعنوان "البحث عن صهيون"، وكان أول كتاب يصدر بالعبرية في أوربا الشرقية بشأن المستعمرات الزراعية في فلسطين. وبمبادرة منه، أنشأت المدرسة الزراعية في ملبس: ”بتاح تكفاح“ (مفتاح الأمل) قرب يافا.

          وأما موشي هيس، فهو يهودي ألماني وكان صديقاً لماركس، وقد أصدر كتاباً بعنوان "روما والقدس". قال هس إنه من الممكن استرداد فلسطين عن طريق إغراء السلطان العثماني بالمال، لكنه لم يعتقد أن الأغنياء اليهود سيذهبون لفلسطين. أطلق هس على الشعب اليهودي ”الشعب الممتاز“. أما المساواة بين البشر، فيناقضها هس كل المناقضة. وأما ليوبنسكر، فكان من رواد الحركة الصهيونية في روسيا، ولد في بولونيا ودرس في أوديسا، تجول في أوروبا داعياً اليهود للتجمع في أي مكان، أصدر كتابه "التحرر الذاتي" بالألمانية. وأبرز ما جاء في كتابه عدم التركيز على فلسطين.

          وكانت أهداف الصهيونية متوافقة مع الاستعمار البريطاني حتى إنها أصبحت فرعاً له، وأصبح أشد أنصار الصهيونية هم أولئك الذين يشغلون مناصب هامة في الدوائر الحكومية في إنجلترا. وأخيراً، ترأس بعض اليهود الدعوة الصهيونية وعبروا عن اهتمامهم بالعمل السياسي من أجل توطين اليهود في فلسطين. وكان من هؤلاء ليوبنسكر صاحب كتاب "التحرر الذاتي". لقد تأثر هذا بمذابح عام 1881 م في بلاده، فهاجر إلى وسط وغرب أوروبا داعياً إلى إحياء القومية اليهودية وإقامة دولة يهودية، وذكر في كتابه أن هذه الدولة ليست بالضرورة في صهيون في فلسطين وإن كان يفضل هذا، وقال:

              يجب أن نجد وطناً لهذا الشعب حتى نكف عن التجوال في العالم وحتى نعيد إقامة الأمة اليهودية… إن هدفنا في الوقت الحاضر ينبغي ألا يكون استعادة الأرض المقدسة إنما نطالب بأرض لنا… أية أرض… إننا لا نريد قطعة من الأرض ذات اتساع يستطيع أن يأوي إخواننا البؤساء، قطعة من الأرض تظل ملكاً لنا ولا يستطيع أحد أن يطردنا منه (10) .

          وفي هذه المرحلة بالذات، وفي إثر المذابح القيصرية ضد اليهود في روسيا، ابتدأت الهجرة الجماعية الأولى إلى فلسطين، وهي الهجرة التي كانت الشعارات الدينية عنواناً لها، والفقر والاضطهاد من مبرراتها. ومن أبرز نتائج الهجرة من روسيا أن اليهود توجهوا في أغلبيتهم إلى الولايات المتحدة وكذلك إلى فلسطين. فكانوا في أمريكا نواة الجالية اليهودية الضخمة، وكانوا في فلسطين نواة الصهيونية. كان شبح الاضطهاد الذريعة الكبرى للهجرة الصهيونية نحو فلسطين، لذلك أصبح من هموم الدعاية الصهيونية التركيز على سيرة الاضطهاد.

          وزادت الهجرة الصهيونية إلى أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر، مما أدى بأمريكا عام 1890 م إلى بعث مندوبين اثنين إلى أوروبا الشرقية لدراسة أسباب الارتفاع المفاجئ في الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة، وذكر المندوبان الأميركيان في تقريرهما: ”إن أغلبية يهود روسيا يعيشون في ظروف أشد سوءاً من الفلاحين والعمال الروس“ (11). لذلك فضل كثير من اليهود الروس الهجرة إلى أمريكا البلد الجديد بدلاً من الهجرة إلى فلسطين. وذكر هرتسل في كتابه "الدولة اليهودية": ”سيذهب أولاً أولئك الذين هم في حالة بؤس ثم يتبعهم الفقراء“ (12) .

          وأقيمت مستعمرات في فلسطين عام 1882 م وهاجر عدد من اليهود الروس إليها، ولكن بسبب صعوبة العيش في فلسطين وصعوبة التأقلم وقلة الخبرة الزراعية عاد بعض المستوطنين إلى روسيا وذهب قسم منهم إلى أمريكا وقليل منهم بقي في القدس. وكانت البعثات المسيحية قد أنفقت على عودتهم إلى أوروبا (13).

وأما يهود فلسطين، فلم يعجبهم قدوم الهجرات اليهودية من الخارج والإقامة في فلسطين، لأن المهاجرين يزاحمونهم اقتصادياً في فلسطين. وقد أثبت هرتزل في يومياته هذه الحقيقية التاريخية التي كشفت عن المعارضة اليهودية الفلسطينية للصهيونية (14). كما واجهت عملية الاستيطان في فلسطين مقاومة عنيفة ومسلحة من العرب في هجومهم على المستوطنات في وقت مبكر من إقامة تلك المستوطنات اليهودية. وفي عام 1870 م، أنشأ يهود فرنسا مدرسة زراعية قرب يافا تدعى بالمكفية؛ وتقوم المدرسة على أراضي قرية يازور العربية. كما أنشأ اليهود الإنجليز أول مستعمرة لهم في أراضي قرية ملبس العربية قرب يافا، وهي مستعمرة بتاح تكفا، أي مفتاح الأمل. وكانت هذه المستعمرة تعيش على المساعدات التي قدمها اليهودي روتشيلد، وذلك لتشجيع اليهود على البقاء في فلسطين. ووصل عدد من الطلاب اليهود من روسيا من جمعية ”بيلو“ التابعة لحركة ”أحباء صهيون“ إلى فلسطين في 5/8/1882 م وأسسوا مستوطنة ريشون ليتسيون (الأول في صهيون) بين القدس ويافـا. وقد تأسست بين عام 1882 ـ 1884م تسع مستوطنات وضعت أساس الاستيطان الحديث في فلسطين (15).

          وتأسست بين عام 1889 و1908 م ثماني مستوطنات جديدة. ولم يتوقف إنشاء المستوطنات أو شراء الأراضي حتى خلال الحرب العالمية الأولى. فقد حصلت المنظمة الصهيونية خلال الثلاث السنوات الأولى من الحرب على 40 ألف هكتار من أجود الأراضي، وذكر كالفاريسكي أن هناك أربع مستوطنات في الجليل تأسست في فترة الحرب العالمية الأولى (16).

          وتذكر الكتب التاريخية أن الهجرة الصهيونية إلى فلسطين مرت في مرحلتين هما: الهجرة الأولى (1882 ـ 1904 م) والهجرة الثانية (1905 ـ 1914 م). أما قبل ذلك التاريخ، فكانت الهجرة إلى الولايات المتحدة من روسيا ورومانيا. لقد شهدت الهجرة الأولى موجتين: تسمى موجة الهجرة الأولى بالعبرية ”عالياه“ كانت عام 1881 ـ 1884 م، ولم يصل فلسطين منها سوى 2 % فقط من هذه الموجة والباقي توجه إلى أمريكا. وتم إنشاء مستعمرات في هذه المرحلة مثل ريشون ليتسيون (عيون قاره) وروش بيناه (الجاعونه) وزخرون يعقوف (زمارين) وبتاح تكفا (ملبس). أما الموجة الثانية من (عالياه الأولى) فكانت خلال سنتي 1890 ـ 1891 م من روسيا. ومن أهم المستعمرات التي قامت آنذاك هي رحفوت (ديران) وحواره (الخضيرة) ومشمار هايرون ويئير طوفياه والمطله (17) وكان الممول لهذه المستعمرات روتشيلد أحد أغنياء اليهود. وهناك مشكلات داخلية واجهت هذه الهجرة الأولى، وهي الأمراض التي تفشت بينهم مثل الملاريا وقلة الخبرة الزراعية واختلاف الجو الذي جاءوا منه. لذا هاجر بعضهم من فلسطين لأمريكا، ورجع بعضهم الآخر لروسيا، وترك آخرون المستوطنات إلى القدس. وفي مواقع لم تستقطب المستعمرات إلا عدداً ضئيلاً بسبب سكناهم في المدن، وكان عدد الذين سكنوا في هذه المستوطنات ستة آلاف مستوطن فقط.

          وكانت الهجرة الثانية (عالياه الثانية) في فترة 1905 ـ 1914 م حيث تأسس مكتب فلسطين في هذه الفترة على يد آرثر روبن عام 1908 م، وكان مسؤولاً عن الاستيطان، واستطاع إقامة 9 مستوطنات في ستة أعوام وقد شيدت في هذه المرحلة مستعمرة تل أبيب عام 1909 م. ثم أُنْشِئَتْ منظمة هاشومير في هذه الفترة ومعناها الحارس عام 1909 م ولم يبلغ عدد الحراس اليهود أكثر من مئة شخص لحراسة المستعمرات. وقد كان هؤلاء نواة لمنظمة الهاجاناه العسكرية فيما بعد. ويقول المؤرخ اليهودي والتر لاكور إن أبرز نتائج الهجرة الثانية كانت:

1) برهان اليهود على قدرتهم أن يكونوا مزارعين وقدرتهم على تطوير وسائل حديثة في المستعمرات.

2) إحياء اللغة العبرية.

3) تصميم عدد من اليهود على البقاء في فلسطين، بالرغم من كل الصعوبات (18) .



اليهودي الصهيوني ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية

          كان ثيودور هرتزل أول من خطط لإنشاء دولة يهودية، حيث شرح في كتابه الذي صدر عام 1895 م بعنوان "الدولة اليهودية" فكرة إيجاد دولة لليهود. وتناول في كتابه نقطاً عن كيفية إنشاء الدولة اليهودية وشرح فيه أحوال اليهود في أوروبا فقال:

          إننا شعب واحد، ولقد حاولنا بشرف وفي كل مكان أن نندمج في الجماعات التي نعيش فيها. إننا نعامل في الدول التي نعيش فيها على أننا غرباء. إن إقامة دولة جديدة ليست بالشيء المستحيل. وستكلف وكالتان متخصصتان بالقيام بهذا العمل هما ”جمعية اليهود“ و”الشركة اليهودية“، وستخول الجمعية السلطات للتفاوض مع الحكومات بكونها ممثلة للشعب اليهودي، وسيكون هدفها خلق الدولة اليهودية. أما الشركة، فهي لتمويل هذه العمليات (19).

وذكر في كتابه أن الأرجنتين مناسبة لإيجاد دولة يهودية فيها، لأنها أرض واسعة وفيها عدد قليل من السكان. أما عن فلسطين، فقال إنها مناسبة أيضاً لأن فيها ذكريات تاريخية، وأضاف قائلاً: ”وإذا وافق السلطان على إعطائنا فلسطين، فإننا في مقابل ذلك سنتعهد بتنظيم الأموال المالية لتركيا، وسنعمل على أن نظل مرتبطين بكل أوروبا التي ستضمن بقاءنا“ (20) .

          كيف سيتم تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين؟ لقد وضح هرتزل ذلك عندما شرح المشروع الصهيوني في يومياته عام 1895 م قائلاً إن جوهر المشروع الصهيوني هو انتزاع الأرض العربية من أصحابها وإعطاؤها مستوطنين أو مهاجرين يهود من الخارج، ولن يتم الاستيطان إلا على حساب العرب، وأضاف هرتزل قائلاً:

          يجب أن نستخلص ملكية الأرض التي ستعطى لنا ولكن باللطف والتدريج، وسنحاول أن نشجع فقراء السكان على النزوح إلى البلدان المجاورة، وذلك بتأمين أشغال لهم هناك ورفض إعطائهم أي عمل في بلادنا… على أننا يجب أن نقوم بكلتا العمليتين، استخلاص الأرض وإبعاد الفقراء بتعقل وحذر (21) .

وفي 29/8/1897 م عقد أول مؤتمر صهيوني في مدينة بال بسويسرا. وكانت أبرز القضايا في هذا المؤتمر بعث اليهودية في يهود أوروبا الغربية وتعليم اللغة العبرية لليهود. أما القضية الأساسية للمؤتمر، فهي توجيه أنظار اليهود ومشاعرهم نحو فلسطين وتحويلها عن أمريكا أو أي مكان آخر.

          وكان مؤتمر بال نقطة هامة في تاريخ الحركة الصهيونية، لأن الأعضاء الذين شاركوا فيه درسوا الوسائل الكفيلة لنجاح خطتهم في تأسيس وطن أو كيان ليهود العالم. وقد التقى في هذا المؤتمر الصهيوني تياران، الأول منهما يمثل جماعة ”محبي صهيون“ الذين ركزوا حديثهم على تأسيس مركز لليهود في فلسطين، بينما الثاني يمثل أنصار ”الدولة اليهودية“ الذين أرادوا تأسيس دولة يهودية في أي مكان، لكن اتفق الطرفان وقررا إنشاء وطن قومي لليهود (22) . كما تم في هذا المؤتمر وضع برنامج الحركة الصهيونية السياسي وجاء فيه:

          تكافح الصهيونية من أجل إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يحميه القانون، ويرى المؤتمر أن الوسائل التالية تؤدي إلى الغاية المنشودة. وهذه هي قرارات مؤتمر بال:

1 ـ تشجيع العمال اليهود الصناعيين والزراعيين استعمار فلسطين على أسس مناسبة.

2 ـ تنظيم وربط جميع اليهود عن طريق المؤسسات المحلية أو الدولية طبقاً لقانون ”كل أمة“.

3 ـ تعزيز وتشجيع الإحساس والشعور القومي اليهودي، أي إيقاظ الوعي اليهودي.

4 ـ اتخاذ الخطوات التمهيدية لدى مختلف الحكومات للحصول على موافقتها على أهداف الحركة الصهيونية (23).

          وأضاف المؤتمر أن كل شخص يهودي يعتنق المبادئ التي وضعت في مؤتمر بال يكون صهيونياً وعليه دفع شلن واحد في السنة، والشلن هو عملة نقدية تساوي 1/20 من الجنيه.

          ألقى هرتزل خطاباً في مؤتمر بال قائلاً:

          إننا نريد أن نرسم أسس البناء الذي سيأوي يوماً الشعب اليهودي. إن الواجب كبير جداً… سنستمع إلى تقارير عن وضع اليهود في مختلف الأقطار… إن الوضع باستثناء حالات نادرة لا يدعو للارتياح… إن الشتات المبعثر للشعب اليهودي قد تحمل في كل مكان اضطهاداً… ومنذ التاريخ السحيق والعالم يسيء فهمنا… إن الصهيونية هي العودة إلى الحياة اليهودية قبل أن تكون عودة إلى الأرض اليهودية… سيكون من أول نتائج حركتنا تحويل المسألة اليهودية إلى مسألة خاصة بصهيون… إن هجرة اليهود ستبدأ إنعاشاً للأرض الفقيرة، بل في الحقيقة فهو إنعاش للإمبراطورية العثمانية بأكملها (24).

          دام عقد المؤتمر ثلاثة أيام حضره أكثر من مائتي مندوب يمثلون سائر الهيئات اليهودية وخرج بتوصيات هامة وخطيرة (25) .

          وعندما رجع هرتزل من بال إلى فيينا، كتب في جريدته، بقصد الدعاية لتأييد الصهيونية، قائلاً:

          لو طلب مني تلخيص أعمال مؤتمر بال، فإني أقول، بل أنادي على رؤوس الأشهاد أنني أسست الدولة الصهيونية. وقد يثير هذا القول عاصفة من الضحك هنا وهناك، ولكن العالم قد يشهد بعد خمسة أعوام أو بعد خمسين عاماً قيام الدولة اليهودية حسبما تمليه إرادة اليهود بأن تنشأ لهم دولة (26).

          وعقدت مؤتمرات صهيونية أخرى بعد المؤتمر الأول، حيث عقدت عدة مؤتمرات صهيونية معظمها عقد في بال. وقد قرر المؤتمر الصهيوني الثاني إنشاء بنك لتمويل المشاريع الصهيونية برأس مال قدره مليونا جنيه إسترليني. وعقد المؤتمر الثالث بتاريخ 1899 م أكد قرارات المؤتمرات السابقة. وعقد المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن، وذلك بقصد استثارة عطف الرأي العام الإنجليزي على الصهاينة.

 أما المؤتمر الخامس، فقد تقرر فيه التخطيط لإنشاء جامعة عبرية وإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وعقد مؤتمر صهيوني سادس بتاريخ 1903 م وهو آخر مؤتمر يشهده هرتزل لأنه توفي عام 1904 م. وفي هذا المؤتمر ثار عليه الأعضاء الصهاينة، لأنه قبل اقتراح الإنجليز بتأسيس وطن قومي لليهود في أوغندا بإفريقيا (27) .     

          واتخذ مؤتمر بال الصهيوني قرارات علنية وأخرى سرية. أما العلنية، فخلاصتها تأسيس دولة لليهود في فلسطين، وعهد لذلك بتقوية الحركة الزراعية وشراء الأراضي في فلسطين. وأما السرية، فهي تلك التي سميت بـ"قرارات حكماء صهيون". وقد تسربت منها نسخة إلى مراسل جريدة "المورننج بوست" اللندنية في روسيا وقام بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، و"البروتوكولات الصهيونية" هي الخطة التي وضعت للسيطرة على العالم (28)

          وكان قد صدر كتاب الإنجليزية بعنوان "بروتوكولات حكماء صهيون" عام 1919 م في لندن وصدرت الطبعة الحادية والثمانون سنة 1958 م بالإنجليزية أكثر من مليون نسخة وبلغ عدد البروتوكولات أربعة وعشرين بروتوكولاً، ”هو مخطط شامل لتقويض كل ما هو قائم في هذا العالم، ولا سيما أوروبا المسيحية وروسيا الأورثوذكسية والبابوية والإسلام وإقامة ملكٍ يهوديٍّ لنسل داود على هذا العالم المنهار“ (29)  .

مقابلة هرتزل للسلطان عبد الحميد الثاني

          كان هرتزل نشيطاً في اتصالاته مع الشخصيات الهامة في أوروبا وتركيا، وكان أحياناً يطلب منهم الاتصال بالسلطان عبد الحميد لإقناعه بإعطائه فلسطين. فطلب مثلاً من ليونسكي ـ صديق السلطان ومفوض الشؤون الأرمنية ـ أن يقنع السلطان بهجرة اليهود لفلسطين. فقال ليونسكي لهرتزل إن السلطان قال له إنه لن يتخلى أبداً عن القدس. قال هرتزل: ”سندبر هذا الأمر… سنجعل القدس خارج حدود الدولة اليهودية ـ المكان المقدس يمتلكه كل المؤمنين“ (30) .

وقد نقل ليونسكي رأي السلطان عبد الحميد إلى هرتزل في 19/6/1896 م بشأن بيع فلسطين لليهود، فذكر ليونسكي لهرتزل:

          قال السلطان لي: إذا كان هرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي، فانصحه ألا يسير أبداً في هذا الأمر. لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحدة من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي… لا أستطيع أبداً أن أعطي أحداً أي جزء منها، ليحتفظ اليهود ببلايينهم. فإذا قسمت الإمبراطورية، فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل. إنما لن تقسم إلا جثثنا ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان (31).

ثم بعث هرتزل رسالة للسلطان عبد الحميد بتاريخ 25/8/1896 م عرض فيها دفع مبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني ضريبة يدفعها اليهود الذين سيقيمون بفلسطين للسلطان العثماني، تكون في السنة الأولى مئة ألف جنيه وتزداد إلى مليون جنيه سنوياً، ويزداد دفع الضريبة على مقدار ازدياد الهجرة اليهودية التدريجية إلى فلسطين غير المحدودة ثم يعطى المهاجرون الاستقلال الذاتي (32)  وعندما زار القيصر الألماني فلسطين، وكان صديقاً للسلطان، تقدم هرتزل لمقابلة القيصر وألقى خطاباً أمامه في 2/11/1898 م، يستشف منه أن يتدخل القيصر لإقناع السلطان العثماني بإعطاء فلسطين وطناً قومياً لليهود. قال هرتزل:

          نحن نطلب من جلالتكم مساعدتكم السامية من أجل المشروع في ”إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين“، ولكنا ما كنا نقدم على مثل هذا الطلب لو كان في خطتنا أدنى أذيّة أو تعد على حاكم هذا البلد (السلطان عبد الحميد)… نحن نخطط لقيام شركة يهودية لأراضي سوريا وفلسطين والتي ستحمل على عاتقها مهمة القيام بهذا المشروع (الوطن القومي) ونطلب لها أن تكون تحت حماية القيصر الألماني… (33) .



          كان هرتزل قد قابل القيصر الألماني غليوم قبل هذه المرة مرتين سابقتين: الأولى في إستامبول في 18/10/1898 م، والثانية في فلسطين في 29/10/1898 م. وفي كل مرة كان هرتزل يضرب على وتر الحماية الألمانية للوطن القومي اليهودي الذي يخطط له. وذكر أن الاستعمار الصهيوني في فلسطين برعاية ألمانيا وحمايتها سيفتح الطرق البري لآسيا من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي. بعد أن تيقن هرتزل أن هذه المساعي في إقناع القيصر الألماني لم تثمر، ركز جهوده على كسب تأييد بريطانيا التي عرضت عليه استعمار أوغنده عام 1903 م (34) .

          بعد هذه الرسائل المرسلة للسلطان عبد الحميد الثاني، وبعد هذه الوساطات الأوروبية والتركية والألمانية ورفض السلطان عبد الحميد التنازل عن فلسطين، قرر هرتزل مقابلة السلطان لإقناعه. وقد كتب هرتزل في مذكراته عن مقابلته للسلطان عبد الحميد الثاني في 18/5/1901 م أنه بحث مع السلطان مسألة الديون العثمانية بأنها شوكة في حلق السلطان وعلى اليهود مساعدته، فرفض السلطان عبد الحميد العرض. وفي أثناء اجتماع هرتزل مع السلطان عبد الحميد عام 1901 م لأول مرة، طلب منه هرتزل فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين بدلاً من أوروبا والعمل على إنشاء حكومة يهودية تابعة للسلطان العثماني. ولكن السلطان رفض هذا الطلب بشدة أيضاً وأصدر قانوناً يقضي بمنع اليهود المهاجرين من الإقامة في فلسطين أكثر من ثلاثة أشهر (35) .

          وقد منحت الدولة العثمانية المهاجرين اليهود بطاقات حمراء ليسهل عليها مراقبتهم وطردهم من البلاد لو مكثوا فيها أكثر من ثلاثة أشهر، على أن يتم ترحيل اليهودي عن طريق القنصلية ذات العلاقة التي ينتمي إليها، وكانت البطاقة التي يحملها اليهودي من السلطات التركية مكتوب عليها الجنسية والمهنة وسبب الرحلة لفلسطين (36).

          ويعزو لوثر (السفير البريطاني في الأستانة) أن سبب تشدد عبد الحميد في رفض الهجرة الصهيونية لفلسطين هو الصدر الأعظم كامل باشا (1886 ـ 1891 م)، لأنه شرح للسلطان النتائج الخطيرة لمثل هذه السياسة على الدولة العثمانية. ولم يستطع هرتزل الذي قابل السلطان مرتين بواسطة الأستاذ Armenius Vambery أن يقنع السلطان عبد الحميد بالتخلي عن معارضته (37) .

          ثم بعث هرتزل رسالة أخرى للسلطان في 17/6/1901 م طلب فيها تأسيس شركة يهودية في الدولة العثمانية تدعى الشركة العثمانية اليهودية يبلغ رأسمالها خمسة ملايين جنيه تركي هدفها تنمية الزراعة والصناعة والتجارة في آسيا الصغرى وفلسطين وسوريا، وأن تقوم هذه الشركة بدفع ستين ألف جنيه سنوياً للدولة العثمانية مقابل الامتيازات التي يمنحها السلطان للشركة بالإقامة، وذكر هرتزل في رسالته قائلاً للسلطان العثماني:

          إن خدماتي الخالية من أية مصلحة في هذه المشروعات هي تحت تصرف جلالتكم حتى وإن كنتم لا تعتقدون أن من المناسب البدء الآن… لا أسأل في عملي لجلالتكم إلا شرف استعادة ثقة جلالتكم فيّ … سيكون لمشروع الشركة "العثمانية ـ اليهودية" فائدة أخرى وهي أن دافعي الضرائب بشراً وممتلكات سيزدادون في كل المناطق التي ستعمل الشركة فيها، وستدفع الشركة المزيد من الضرائب بنمو عملها. وسيتدفق رأس المال اليهودي من كل زاوية ليوطد نفسه هناك وليبقى في الإمبراطورية (38) .



          إن كل هذه الإغراءات المادية من هرتزل لسداد ديوان الدولة العثمانية قد رفضها السلطان عبد الحميد الثاني. وقد بلغت الديون على الدولة العثمانية حوالي 85 مليون جنيه إسترليني كان قد استدانها السلاطين العثمانيون السابقون من الدول الأوروبية بفوائد عالية.

حاول هرتزل الحصول على فلسطين من السلطان عبد الحميد بعدة طرق، منها: أولاً، الإغراءات المادية، وذلك بسداد ديون الدولة العثمانية؛ وثانياً، إنشاء شركة يهودية عثمانية؛ وثالثاً، الوساطات الأوروبية والتركية لدى السلطان لإقناعه. وقد فشل فيها هرتزل كلها. ثم قرر هرتزل أخيراً الحصول على فلسطين عن طريق إنشاء جامعة عبرية في القدس، حيث قدم هرتزل اقتراحاً بهذا المشروع للسلطان العثماني في 3/5/1902 م قال فيه: : ”إننا معشر اليهود نلعب دوراً هاماً في الحياة الجامعية في جميع أنحاء العالم، والأساتذة اليهود يملأون جامعات البلدان… إننا نستطيع أن نقيم جامعة يهودية في إمبراطوريتكم ولتكن في القدس مثلاً. عندها لن يضطر الطلاب العثمانيون الذهاب إلى الخارج“…(39) ولقي مشروعه هذا الرفض من السلطان أيضاً.

          كان السلطان عبد الحميد الثاني يتصدى للمخططات الصهيونية التي تريد ابتلاع فلسطين والقدس خاصة. لذا أصدر قوانين وتشريعات لمنع هذه المخططات. ومن أهم خطواته ربط سنجق القدس مباشرة بالصدر الأعظم في إستنبول حتى يشرف بنفسه على منع تغلغل النفوذ الاستعماري والصهيوني في فلسطين عامة والقدس خاصة. وأشار هوجارت ـ وهو أحد البريطانيين المتخصصين في أمور الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى ـ إلى أن الاستيطان هو الذي دفع السلطان عبد الحميد عام 1887 م إلى جعل القدس سنجقاً مستقلاً عن ولاية دمشق ومتصرفيَّة لها اتصال مباشر بالصدر الأعظم (40) . وكانت متصرفيّة القدس تضم أقضية القدس ويافا وغزة والخليل وبئر السبع، وذلك حسب التقسيمات الإدارية العثمانية.

          وعندما علم السلطان أن سيل الهجرة الصهيونية من روسيا قد يتدفق إلى فلسطين بسبب ما جرى ضد اليهود من قبل الحكومة القيصرية أرسل في 29/6/1882 م رسالة إلى متصرف القدس طلب فيها منع اليهود الذين يحملون الجنسيات الروسية والرومانية والبلغارية من الدخول إلى القدس، وكانت قوانين عام 1882 م التي أصدرها السلطان لا تسمح لليهود بدخول فلسطين إلا في حالة واحدة وهي الحج ولمدة ثلاثة أشهر، على أن يحجز جواز سفر الزائر ويودع في مركز البوليس التركي حيث يستبدله مؤقتاً بـ”الجواز الأحمر“؛ ولكن ظلت تلك الأوامر حبراً على ورق، لأن اليهود استطاعوا خرقها ”بفضل البخشيش“ (41).

          كان السلطان على معرفة بفساد الإدارة الحكومية وانتشار الرشوة والمحسوبية عند كبار الموظفين، لذلك كان يحرص على تعيين موظفين أكفاء مخلصين على سنجق القدس حتى لا يقعوا فريسة إغراءات قناصل الدول الأجنبية واليهود. ومن هؤلاء الموظفين رءوف باشا الذي كان متصرفاً للقدس بين عام 1876 وعام 1888 م. لكن سعى سفير الولايات المتحدة الأميركية (أوسكار شتراوس) اليهودي الأصل إلى طرد رءوف من منصبه، وذلك بالضغط على السلطات التركية، ووافقت السلطة التركية على استبدال هذا الوالي بوالٍ آخر أقل عداءً للصهيونية، لأن مواقف وأعمال رءوف باشا أدت إلى تجميد النشاط الصهيوني في متصرفية القدس خلال فترة ولايته (42).

          وفي عام 1890 م قدم وجهاء القدس عريضة احتجاج للصدر الأعظم ضد رشاد باشا متصرف القدس الجديد الذي أبدى محاباة وتحيزاً للصهاينة، بخلاف سلفه رءوف باشا؛ وكذلك قدموا عريضة أخرى عام 1891 م طالبوا فيها بإصدار فرمان سلطاني يمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، لأنهم لاحظوا بداية النشاط الصهيوني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين (43) . لذا أصدر السلطان فرماناً عام 1900 م جدد فيه إقامة اليهود الزائرين لفلسطين بمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. فاحتج الصهاينة وطلبوا من الدول الأوروبية الاحتجاج على هذا القانون، فاحتجت إيطاليا وأمريكا وبريطانيا. وكان رد الصدر الأعظم أن ذلك الفرمان ليس جديداً، بل هو تجديد لفرمان صدر منذ عشرين عاماً. ولكي يخفف السلطان من حدة هذه الاحتجاجات، وافق على مقابلة هرتزل عام 1901 م (44) .

          وفي عام 1898 م أصدر السلطان عبد الحميد قوانين جديدة منع فيها اليهود من دخول القدس. وقد بلغ من تشدد السلطات العثمانية في تنفيذ هذه القوانين أنها منعت القنصل البريطاني في أنطاكيا من الدخول ما لم يقدم التعهد المطلوب باعتباره يهودياً، ذلك التعهد الذي يقضي بأن يغادر البلاد خلال المدة التي حددها القانون.

          ربالرغم من هذه الإجراءات العثمانية المشددة للحفاظ على فلسطين، استطاع اليهود الصهاينة التسلل إلى فلسطين بمساعدة بعض القناصل الأوربيين في فلسطين، وقبول بعض الموظفين العثمانيين الرشاوي. لكن أعيان القدس طالبوا الصدر الأعظم باتخاذ إجراءات فعالة وكفيلة بمنع تدفق اليهود إلى فلسطين وشرائهم الأراضي.

          علم هرتزل أنه من المستحيل إقناع السلطان عبد الحميد أو شراء ذمّته بالمال؛ لذلك دبر الصهاينة مؤامرة لخلعه أو زج تركيا في حرب عالمية (45) . وبما أن تركيا ضعيفة، فهي لابد من أن تخسر الحرب. وهذا ما حصل فعلاً فيما بعد. ومن الغرابة أنه أثناء خلع السلطان عبد الحميد عام 1908 م والثورة عليه، جاء موظف عثماني يهودي كان يعرفه السلطان وسلمه رسالة الخلع عن الحكم. وكان هذا اليهودي مندوباً عن حركة ”تركيا الفتاة“، فاستغرب السلطان عبد الحميد لهذه المكيدة المدبرة (46) . لقد التقت مصلحة اليهود مع مصلحة ”تركيا الفتاة“ للإحاطة بالسلطان عبد الحميد وأوضحت رسائل السفارة البريطانية في الأستانة إلى الخارجية البريطانية عن الدور الذي لعبه اليهود وجماعة يهود الدونمة في مجالس ”تركيا الفتاة“ في مدينة سالونيك. ويقول لوثر (السفير البريطاني) في تركيا أن عمانويل (قره صو) المحامي الماسوني اليهودي من سالونيك كان قد أسس محفلاً فيها له صلة بالماسونية الإيطالية. وأضاف لوثر أن قره صو، النائب اليهودي في سالونيك، قد أظهر حماساً شديداً في تأييد التقدم نحو العاصمة لخلع السلطان، وأن قائد الفرق الأربع المتجهة إلى العاصمة من سالونيك هو الكولونيل رمزي بيه الذي عين رئيساً لمعاوني السلطان محمد الخامس (محمد رشاد) وأن قره صو هو أحد أعضاء الوفد الذي أبلغ عبد الحميد بقرار خلعه في 24/4/1909 م (47) . وبعد أن رضخ عـبد الحميد لقرار خلعه عن العرش، أشار إلى قره صو وقال بغضب: ”..... ما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة… بأي قصد جثتم بهذا الرجل أمامي…؟  (48) .

          وكان السلطان عبد الحميد يعلم أهداف اليهود من محاولة تملك فلسطين. وقد قام عدد من الفلسطينيين والعرب في البرلمان العثماني بشرح خطورة الحركة الصهيونية وأهدافها للسلطان العثماني. وقد كتب السلطان في مذكراته عن خطر اليهود قائلاً:



          لدينا عدد كاف من اليهود. فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً (في فلسطين)، علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين؛ وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً، تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير. وبذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم (49) .

بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908 م وإعطاء الحرية السياسية للأجانب، نشط الصهاينة في السيطرة على الصحافة في تركيا. فوصل الأستانة د. فيكتور جاكبسون (صهيوني روسي)، وأشرف على الدعاية في الأستانة، أو ما سموه حملة ”تنوير سياسية منظمة“. وجاء جابوتنسكي ممثلاً للصحيفة الروسية الصهيونية وأوكلت إليه مهمة الإشراف على شبكة من الصحافة تديرها الصهيونية (50) . وهذه الصحف كثيرة وبلغات أجنبية وتركية ولا داعي لتعدادها.

          نتيجة للمواقف الصلبة للسلطان عبد الحميد ضد مخططات الاستعمار والصهيونية، أصبح من المؤكد لدى زعماء الدول الاستعمارية أنه لا مجال لتنفيذ المشروع الصهيوني وتهويد فلسطين ما دام السلطان على العرش.

          لقد ضحى السلطان عبد الحميد بعرشه من أجل فلسطين. والذي يؤكد ذلك وثيقة تاريخية بخط السلطان تبين سبب خلعه، وهي رسالة وجهها بعد خلعه إلى شيخه في الطريقة الشاذلية الشيخ محمود أبي الشامات شيخ الطريقة الشاذلية في دمشق. وقد نشر هذه الرسالة الأستاذ سعيد الأفغاني الدمشقي في مجلة "العربي" الكويتية في عددها الصادر كانون أول عام 1972 م ضمن مقالة بعنوان ”سبب خلع السلطان عبد الحميد“، جاء فيها:



          إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم ”جون تورك“ وتهديدهم، اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة. إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين. ورغم إصرارهم، فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية ذهباً فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: ”إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فضلاً عن 150 ليرة ذهباً، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي. لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين. لهذا لن أقبل تكليفكم بوجه قطعي أيضاً. وبعد جوابي القطعي، اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيعيدونني إلى سلانيك فقبلت بهذا التكليف الأخير“ (51) .

وبعد خلع السلطان عبد الحميد ازداد النشاط الصهيوني المنظم على شتى المستويات، وكانت فرحتهم ظاهرة بسبب خلع السلطان عبد الحميد. فقد كتب الصهيوني الأمريكي ريتشارد غوتهايل ـ رئيس الفرع الأمريكي للمنظمة الصهيونية قائلاً: ”ما من أحد يخفق قلبه فرحاً وابتهاجاً مثلما يخفق قلب الصهيونيين على انقلاب تركيا الفتاة“ (52).

          بعد أن فشل هرتزل في إقناع السلطان عبد الحميد، وبعد أن فشل في إقناع القيصر الألماني، اتجه إلى بريطانيا. فبدأت مفاوضات بين هرتزل وجوزيف تشمبرلين (سكرتير وزير المستعمرات البريطانية) بشأن استيطان اليهود في عدد من الأقطار، فقدم هرتزل في 22/10/1902 م مشروعاً لاستعمار جزيرة قبرص وشبه جزيرة سينا حتى العريش. لكن تشمبرلين استبعد مشروع جزيرة قبرص بسبب رفض اليونانيين المسلمين في الجزيرة. وأبدى تشمبرلين نظرة إيجابية نحو سينا، وعرف هذا بمشروع العريش (53) .

 وقد طلب تشمبرلين من هرتزل أن يتكلم مع لاندسون في وزارة الخارجية ويبحث معه مشروع العريش، وعندئذ بعث هرتزل إلى لاندسون مذكرة بتاريخ 24/10/1902 م ذكر فيها أهمية المنطقة واستفادة بريطانيا مع تجمع اليهود في سينا. فقال في مذكرته: ”... هناك حوالي عشرة ملايين يهودي في العالم لا يستطيعون في جميع البلدان أن ينتموا إلى إنجلترا علناً إنما سينتمون إليها بقلوبهم إذا هي قامت بعمل مثل هذا فأصبحت حامية للشعب اليهودي...“ (54) .

          ولكن اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر رفض اقتراح هرتزل بالاستيطان في سينا، ففشل المشروع. ثم اقترح تشمبرلن منح أوغندا في كينيا للاستعمار الصهيوني، واقتنع هرتزل بهذا العرض الإنجليزي. وبحث هرتزل هذا الاقتراح في المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقد أيضاً في بال في الفترة ما بين 23 و28 آب عام 1903 م. ونجح هرتزل في أخذ موافقة أكثرية المندوبين على قبول العرض وإقامة ”فلسطين جديدة“ في أوغندا.

          لكن مشروع أوغندا فشل أيضاً لأكثر من سبب، منها: معارضة المستوطنين الإنجليز في أوغندا لأي استيطان يهودي يهدد مواقعهم، ومعارضة قسم من الصهيونية اختيار أوغندا اعتقاداً منهم أنها لن تحرك عواطف اليهود كما تحركها فلسطين التي ترتبط حسب اعتقادهم بتقاليدهم وطقوسهم الدينية، ومنها أن المؤتمر السابع الذي عقد في بال في 27/7/1905 م رفض مشروع أوغندا.

          عقد المؤتمر السابع الصهيوني بعد وفاة هرتزل ـ زعيم الحركة الصهيونية ـ عام 1904 م. وفي هذا المؤتمر السابع انشق الصهاينة إلى قسمين: قسم منهم أراد العودة إلى البرنامج الصهيوني الأصلي وهو استعمار فلسطين، وقسم منهم أراد استيطان اليهود في أي جزء ملائم من العالم، وتزعم هذا الفريق إسرائيل زانغويل من كبار الصهيونيين البريطانيين الذي شكّل ”الاتحاد الإقليمي اليهودي“ (55) . لقد وضع زانغويل معادلة لتنفيذ المشروع الصهيوني، فقال: يجب أن تكون إسرائيل ”نظيفة كلياً من السكان العرب، وإما لا إسرائيل“ (56) .

          وقد قرر المؤتمر السابع الصهيوني التخلي عن فكرة استعمار أوغندا والتمسك بفلسطين. وبالرغم من هذا القرار، فإن الهجرة اليهودية استمرت إلى أمريكا وفلسطين. لكن اليهود في فلسطين رفضوا استقبال الصهاينة القادمين من أوروبا، وأيدوا مشروع استيطان أوغندا ورفضوا استيطان فلسطين، حتى إن يهود فلسطين شكوا إلى السلطات التركية من قدوم المستوطنين من أوروبا (57) . وكان سبب تأييد يهود فلسطين لمشروع أوغندا يكمن في كونهم ينظرون بارتياب وازدراء للصهيونية السياسية، ويخشون أن يؤدي تدفق المهاجرين اليهود بأعداد كبيرة إلى تهديد علاقات حسن الجوار مع العرب. وكان وايزمن يصنف يهود فلسطين ضمن فئة ”عديمي الجدوى والفائدة“ (58) .

          حل وايزمن محل هرتزل في زعامته الصهيونية (59)  بسبب وفاة الأخير، وكان وايزمن صديقاً لبلفور صاحب الوعد المشؤوم الذي صدر عام 1917 م. وقد أنشأ مكتباً تنفيذياً للحركة الصهيونية في لندن لكسب تأييد الحكومة البريطانية.

          أقر المؤتمر الصهيوني الثامن استئناف النشاط الصهيوني العملي في فلسطين، وقامت شخصيات صهيونية بزيارات استطلاعية إلى فلسطين لدراسة إمكاناتها، بدأها وايزمن بحجة إنشاء مشاريع صناعية في فلسطين، واستغرقت رحلته ثلاثة أسابيع، توصل إلى انطباع أثناء مشاهداته أن الصهاينة في فلسطين يعتمدون على مساعدات خارجية وأن أبناءهم يتركون المستوطنات ويذهبون إلى المدن أو يعودون من حيث أتوا من أوروبا. والتقى وايزمن أثناء وجوده في فلسطين بآرثر روبن (الألماني الروسي) الذي جاء لفلسطين عام 1907 م مكلفاً من المؤتمر الصهيوني، وتوصل إلى انطباع كما توصل وايزمن من هجرة الصهاينة من الريف للمدينة. وقد عينت اللجنة التنفيذية الصهيونية آرثر روبين بتولي منصب ممثل المنظمة الصهيونية في فلسطين مديراً للدائرة التي عرفت باسم ”مكتب فلسطين“، ومقره في يافا، ومهمته تقديم معلومات عن فلسطين والإشراف على النشاط العملي فيها تساعده شركة تطوير أراضي فلسطين (Palestine Development Company)(60) .

          كانت الأهداف والغايات الصهيونية واضحة، وهي تهجير أكبر عدد ممكن من اليهود المضطهدين في الدول الأوروبية إلى فلسطين للعمل بالزراعة والصناعة، واعتقد الصهاينة أن الدولة العثمانية ترغب في إعمار البلاد وأن الدول الأوروبية لا تمنع فقراء اليهود من ترك بلادهم والانتقال إلى البلاد الشرقية، وخطط الصهاينة لأن يشكلوا وطناً قومياً يهودياً في فلسطين بعد أن يكثر العنصر اليهودي فيها.



من أهم المؤسسات التي أنشأتها المنظمة الصهيونية من أجل تحقيق أهدافها ما يلي:

          1 ـ البنك الاستيطاني اليهودي ((The Jewish Colonial Trust برأس مال قدره مليونا جنيه إسترليني. وهو شركة مسجلة في لندن عام 1899 م من أجل تطوير فلسطين والبلاد المجاورة صناعياً وتجارياً.

          2 ـ بنك أنجلو فلسطين Anglo Palestine Bank))، وهو فرع للبنك الأول. وله فروع في يافا والقدس وحيفا وصفد وبيروت والخليل وطبريه وغزة. وهو شركة مسجلة برأس مال قدره 100,000 جنيه تأسس عام 1903 م، هدفه منح القروض للأغراض الصناعية والتجارية.

          3 ـ الصندوق القومي اليهودي Jewish National Fund))، ويعمل تحت منظمة البنك الأول. ويطلق عليه بالعبرية ”كيرين كايمت“. وهو شركة إنجليزية برأس مال قدره 300,000 جنيه إسترليني. هدفه جمع الأموال بشتى الطرق للحصول على أرض في فلسطين للشعب اليهودي. تأسس عام 1907 م واشترى حتى نهاية الانتداب 758,000 دونمٍ (61).

          4 ـ شركة تطوير الأراضي (Palestine Land Development)، وهي شركة إنجليزية سجلت في عام 1909 م في لندن برأس مال قدره 17,500 جنيه إسترليني هدفها الحصول على الأراضي للصندوق القومي اليهودي وشركات الاستيطان وبيعها للمستوطنين في المستقبل.

الخاتمة

          لقد وضعت الحكومة العثمانية صعوبات أمام المنظمة الصهيونية في الحصول على صفقات بيع الأراضي: فالسلطة العثمانية زمن السلطان عبد الحميد هي التي وقفت ضد شراء الأراضي. أما بعد عام 1908 م، فالعرب وقفوا بشكل فردي ضد الصهاينة ومشاريعهم. وبالرغم من ذلك، فقد استطاع الصهاينة بأساليب عدة الحصول على الأراضي وإنشاء المستوطنات، حتى أنه حين انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 م كان في فلسطين 40 مستوطنة معظمها في الجليل ومرج بن عامر وسهل سارونة، بلغ عدد سكانها حوالي 12,000 نسمة وتملك 400,000 دونم وهي من أحسن أراضي فلسطين(62). واعترفت المنظمة الصهيونية والقنصل البريطاني في القدس بالمعارضة العربية للاستيطان اليهودي في فلسطين وحوادث الاشتباكات بين العرب والمستوطنين خاصة في يافا وطبريا وحيفا، وكذلك اعترفت المنظمة الصهيونية بشعور الاستيلاء والهياج لدى المستوطنين واتهمت الجريدة اليهودية "جويش كرونيكل" السلطات المحلية بعجزها عن إعادة الأمن إلى المنطقة. كما أن الجرائد العربية التي صدرت في فلسطين أواخر عام 1908 م قد نبهت إلى الخطر الصهيوني (63).




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع



الحوت، بيان، فلسطين. القضية، الشعب، الحضارة، دار الاستقلال، بيروت، 1991.

أرشيف وزارة الخارجية البريطانية.

أرشيف وزارة المستعمرات البريطانية.

السفري، عيسى، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، يافا، 1937.

الشريف، ريجينا، الصهيونية غير اليهودية. جذورها في التاريخ، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1985.

النتشة، رفيق شاكر، السلطان عبد الحميد وفلسطين.

التل، عبد الله، خطر اليهودية على الإسلام والمسيحية، دار القلم، 1964.

بدر، كاميليا، نظرة على الأحـزاب والحركات السياسية الإسرائيلية، ط 3، جمعية الدراسات العربية، القدس، 1985.

توما، إميل، جذور القضية الفلسطينية، المكتبة الشعبية، الناصرة.

جبارة، تيسير، تاريخ فلسطين الحديث، ط 2، البيادر، القدس، 1986.

حلاق، حسان، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية.

دروزة، محمد عزة، القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها، بيروت، 1959.

عبد الناصر، جمال، هذه هي الصهيونية.

علي، علي محمد، ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية، ج 1، مركز دراسات الشرق الأوسط.

علوش، ناجي، المقاومة العربية في فلسطين (1917 ـ 1948 م)، بيروت، 1967.

مذكرات السلطان عبد الحميد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1979.

منشورات الطلائع، بالتعاون مع مؤسسة الأراضي للدراسات الفلسطينية بإشراف حبيب قهوجي، استراتيجية الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ط 1، 1978.

قاسمية خيرية، النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه (1908 ـ 1918 م)، م. ت. ف.، مركز الأبحاث، بيروت، 1973.

ياغي، إسماعيل أحمد، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية.

 المصدر : مجلة التاريخ العربي المغربية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق